العرض في الرئيسةفضاء حر
ارشيف الذاكرة .. السلسلة الثانية من تفاصيل حياتي محدثة (1 – 4)
يمنات
أحمد سيف حاشد
أنا ابن الدباغ..
أبي
(1)
- كان أبي عاملا .. مُفند للجلود .. هي مهنة محتقرة عند البعض باعتبارها امتدادا لدباغة الجلود .. مهنة محتقرة عند من يتملكهم الخواء و “العنطزة”، و الذين يعيشون على السلب و النهب والفساد في الأرض، والغير قادرين على فهم إن العمل طالما كان مشروعا، هو شرف كبير؛ لأن صاحبه يأكل من كده وعرق الجبين، هو ومن يعيلهم..
- كان أبي يعمل في شركة (البس) بعدن، يفنِّد الجلود، وهي الحرفة التي أعطاها الجزء الأهم من زهرة عمره وريعان شبابه.. العمل بتفنيد الجلود له أضرار صحية، ولكن يبدو أن أبي وهو يلتحق بالعمل بهذه الشركة قد آثر فرصة العمل على البطالة، وأنفذ المثل القائل “غبار العمل ولا زعفران البطالة”
- بسبب الملح والجلود والمواد الكيمائية المستخدمة أصيب أبي بضيق النَفَس، وسعال ليلي، رافقه حتى آخر أيام حياته.. جزء من طفولتي الأولى التي أتذكر بعضها بصعوبة كان في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة “البس”..
- بعد سنين من عمله في شركة (البس) جاء بنا من القرية لنكون معه وإلى جواره.. وفر له العمل قدرا من الدخل المحدود، ليلم به شملنا، ويفي باستقرار معيشي متواضع، وإن كان قد جاء هذا على حساب صحته بالمقام الأول.. كان إيثارا منه لم نعلمه إلا بعد نوبات السعال التي كان يعاني منها لاحقا بعد حين..
- أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن، وكان عمري يومها سنتين وبضعة أشهر، ومعي أختين توأم (نور وسامية) وعمرهما أقل من عام.. وفي (دار سعد) كنّا قد سكنا منزلا صغيرا استأجره والدي، ويتكون من غرفه وحمام ومطبخ وصالة.
***
(2)
ناس يروننا دونهم
- خلال أكثر من خمسين عام من عمري، لم أكن أعرف أن هناك فئات سكانية أو مجتمعية في اليمن تحتقر مهنة دباغة الجلود والعاملين فيها، وتنظر إليهم بنظره دونية.. كانت الفكرة الراسخة في ذهني إننا ننتمي إلى طبقة الفقراء فحسب، ولم أعلم أن هناك فئات سكانية، وبيئات قبلية، وبدوية، ترانا دونها إلا في فترة متأخرة من حياتي.. ما كنت ألمسه في محيطي وغير محيطي الذي أعرفه أن مهنة دباغة الجلود وتفنيدها، لا تختلف عن غيرها من المهن من وجهة نظر الوعي السائد في اليمن كله.
- ما كنت أعلمه في العهد الاشتراكي القائم في عدن ثم فيما تلاه، هو أن أبي بدأ حياته عاملا في مهنة تفنيد الجلود، وهي مهنة ذات صلة وامتداد لعمل ومهنة الدباغة، وأعرف أن أبي ينتمي للطبقة العاملة، وإننا ننتمي لطبقات الفقراء، أو قل إن شئت من أسر ذوي الدخل المحدود.. وقد وُجدت في جنوب اليمن إبان العهد الاشتراكي حماية قانونية، ونصوص عقابية لمن يعيّر أو يحتقر أو يسيء إلى أحد المواطنين بسبب انتمائه المهني، أو حتى الطبقي المتدني..
- بل أذكر في بعض ما تعلمته، من قانون العقوبات وشروحاته في كلية الحقوق بعدن، أنه إذا وجه أحدهم إهانة صاعقة أو احتقار شديد أو إساءة بالغة إليه، وأرتكب من وُجهت إليه هذه الإساءة البالغة، جريمة فعل القتل ضده، تحت تأثير الهياج النفسي الشديد الناتجة عن تلك الإساءة البالغة، فلا يقاد القاتل به..
- وتفسر الشروحات هذا النص، وتعيد السبب إلى أن فعل القتل تم ارتكابه من قبل الجاني في لحظة الهياج النفسي الشديد جرّاء الإساءة البالغة الموجه له من المجني عليه، وعلى نحو أخر